الاثنين، 6 يوليو 2009

مراجعة تاريخ قيام مملكة الزغاوة

بقلم الدكتور حسين ادم الحاج
تأثرت دارفور القديمة بالممالك والسلطنات التى نشأت حولها من النواحى الغربية والشمالية، وتحديداً مملكتى الزغاوة والكانم، وما قامت بعدهما ممثلة فى مملكتى البرنو وودّاى وهى كلها مجاورة لدارفور من النواحى الغربيّة. هذه الممالك كانت أنظمة الحكم فيها متطورة نسبياً عمَّا كان سائداً فى دارفور فى تلك الفترات. لقد وردت الإشارة لإسم مملكة الزغاوة وشعب الزغاويين فى عدد من المصادر التاريخيّة، فقد ذكرهم اليعقوبى فى القرن الثالث للهجرة/التاسع الميلادى أثناء حديثه عن الكانم (تاريخ اليعقوبى، مطبعة العزى بالنجف، العراق، 1939)، كما وصفهم المهبلى فى القرن الرابع للهجرة/العاشر الميلادى "كمملكة واسعة تمتد بين بحيرة تشاد وحدود النوبة"، ويدل ذلك إلى أنَّ مملكتهم كانت تشتمل أصلاً على كل من كانم وأجزاء واسعة من دارفور، إذ يصفها البغدادى بأنّها "مملكة عظيمة من ممالك السودان تشمل أمماً كثيرة وتحدها من الشرق مملكة النوبة" (معجم البلدان، الإمام شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت البغدادى، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت 1957)، ولا يمكن جغرافياً أن تمتد حدود تلك المملكة من أطراف بحيرة تشاد، فى الجزء الغربى من دولة تشاد الحاليّة، إلى شواطئ النيل شرقاً دون أن يشمل ذلك منطقة دارفور، خصوصاً القسم الشمالى منها، ويشير الإدريسى كذلك، والذى عاش فى القرن السادس للهجرة/الثانى عشر الميلادى، إلى إمتداد بلاد الزغاوة إلى الشمال حتى فزَّان الليبيّة، وفى الجنوب إلى حدود بلاد الكانم بحيث لم يكن بين إنجيمى عاصمة بلاد الكانم وبين مدينة زغاوة إلا مسافة مسيرة 6 أيام (نزهة المشتاق فى إختراق الآفاق، أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن إدريس الحمودى الحسنى المعروف بالإدريسى، عالم دار الكتب، بيروت، 1989)، لكن نعتقد أنّ هذا يمثل وصف متأخر قليلاً للزغاوة بعد إنحسارهم ناحية الشمال والشرق نتيجة لضغوط الكانم والملثمين. ;">ويورد الدكتور رجب محمد عبدالحليم وقوع منطقة دارفور فى فترة من الفترات ضمن مملكة الزغاوة، ويشير إلى أنَّ الزغاوة إنتشروا منذ ما قبل القرن التاسع للميلاد وكونوا مملكة على مساحة رحبة تمتد فى الجنوب إلى دارفور حتى بحيرة تشاد، وتمتد فى الشمال حتى تصل إلى المنطقة الممتدة بين الواحات المصريّة والنوبة من ناحية الشرق، وتتمدد غرباً إلى الخط الذى يمتد ما بين فزَّان فى الشمال وبحيرة تشاد فى الجنوب (العروبة والإسلام فى دارفور فى العصور الوسطى، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الفجالة، 1992). وترجح مصادر أخرى إلى أنّ وجودهم سابق لذلك بفترة طويلة حيث تشير إلى وجود مملكة للزغاوة وإستقرارهم فى النواحى الشمالية لبحيرة تشاد منذ القرن السابع الميلادى وأنهم قد تمكنوا بعدها من تأسيس مملكة فى تلك الأرجاء عام 872 م (أى القرن التاسع)، تطورت لاحقاً إلى مملكة الكانم. وبالأساس يبدو أنّ شعب الزغاوة قد إنطلقوا فى بادئ أمرهم من مناطق الشام الحاليّة شمالى الجزيرة العربيّة فى القرن الأول للهجرة/السابع الميلادى وإضطروا للنزوح تدريجياً صوب الغرب عابرين مصر إلى أن إنتشروا فى المناطق آنفة الذكر، وقد يكون ذلك سبب قيام بعض المؤرخين بنسبتهم إلى الطوارق. وعلى العموم يبدو أنَّ سلطنتهم تلك حول بحيرة تشاد قد أخذت تضعف تدريجياً مع نهاية القرن العاشر الميلادى حيث حلَّت محلها مملكة الكانم، وهم أبناء عمومة الزغاوة على أيّة حال، والتى تحولت إلى مملكة إسلامية عام 1085م كما أشار إليها الدكتور أحمد شلبى (موسوعة التاريخ الإسلامى والحضارة الإسلامية، مطبعة النهضة المصرية، القاهرة، 1975), وقد يشير ذلك إلى تسرب الإسلام إلى دارفور واللغة العربيّة منذ ذلك الوقت، أى قبل نزوح القبائل العربيّة التدريجى إليها. وتبعاً لذلك يبدو أنَّ الزغاوة قد أُضطروا للنزوح جنوباً من مناطق الواحات المصرية وفزَّان جنوبى ليبيا، وشرقاً من مناطق شمال بحيرة تشاد، نتيجة لتعرضهم للضغط من هجرات الطوارق والملثمين من شمالى أفريقيا، وهؤلاء هم الذين ساعدوا فى تأسيس مملكة الكانم، ليتركز الزغاوة بعدها نهائياً فى الجزء الشمالى الغربى من دارفور والأجزاء الشماليّة الشرقيّة من تشاد الحاليّة فى بداية القرن الثانى عشر الميلادى (تاريخ إبن خلدون، مؤسسة جمال للطباعة والنشر، بيروت)، ولما إستقروا فى تلك المناطق كونوا سلطنة تسمى سلطنة الزغاوة حيث وصفها التونسى بأنها كانت لها سلطان وكانت تشتمل على خلق لا يحصون

سكان الصحراء غربي النيل- الزغاوة

سكان الصحراء غربي النيل الزغاوة
مختار العوض موسى
mokhtaralawad@gmail.com
وإلى الجنوب والشرق من كوار تقع مجالات الكانم، فديارهم تمتد من بحيرة تشاد جنوباً متوغلة في الصحراء، وقد تراوحت حدود كانم الشمالية على حسب قوتها وقوة الدول التي قامت في شمال افريقيا. لكن حدودها كانت بصورة شبه دائمة في الفترة التي نحن بصدد الحديث عنها ممتدةً حتى النهايات الشمالية للصحراء الكبرى.
وقد ذكر ابن سعيد عند الحديث عن غدامس – على الحدو الليبية التونسية الجزائرية- وودان إلى الشرق من غدامس وبلاد فزان أن "الجميع الآن في طاعة ملك الكانم"[2] فسكان بلاد الكانم كانوا سودان وبربر. وقد وصفهم فيما بعد القلقشندي بأنهم "مسلمون الغالب على ألوانهم السواد ... وأتباعهم من البرابرة الذين أسلموا ... عسكرهم يتلثمون."[3]
وإلى الشرق من بلاد كانم وهي المنطقة الواقعة الآن على الحدود السودانية التشادية أي دارفور ومايجاورها مجالات الزغاوة والتاجويين. وصنفت المصادر الاسلامية المبكرة الزغاوة بانهم من السودان مثل النوبة والبجة والكانم أبناء كوش بن كنان بن حام بن نوح.[4]
وقد ورد عند كل من الادريسي وابن خلدون رواية يفهم منها أن مواطن الزغاوة كانت في أقصى الجزء الغربي من الصحراء الكبرى في أرض قمنورية على المحيط الأطلسى والتي كان يسكنها قوم يقول ذكر الإدريسي أن "التجار يدعون أنهم يهود وفي معتقدهم تشويش"[5] ويضيف الادؤيسي على نفس الصفحة أنه:
"وكانت في القديم من الزمان السالف لأهل قمنورية مدينتان عامرتان ... لكن أهل زغاوة وأهل لمتونة الصحراء الساكنون من جهتي هذه الأرض طلبوا هذه الأرض أعني أرض قمنورية حتى أفنوا أكثر أهلها وقطعوا دابرهم وبددوا شملهم على البلاد ... فأفنتهم الأيام وتوالت عليهم الفتن والغارات من جميع الجهات فقلوا في تلك الأرض وفروا عنها واعتصموا في الجبال وتفرقوا في الصحارى ودخلوا في ذمة من جاورهم وتستروا في أكنافهم"
ويورد ابن خلدون أثناء حديثه عن بلاد السودان أن "أرض قنورية وبعدها في جهة الشرق أعالي أرض غانة ثم مجالات زغاوة من السودان"[6] ويتضح من النصين أن مواطن الزغاوة كانت بالقرب من ساحل المحيط الأطلسي ولكن يفهم من نص الادريسي أن ذلك كان كما عبر " في القديم من الزمان السالف"
وبالطبع فإنه يصعب تحديد ذلك الزمان السالف، ولكن ما نقلته المصادر العربية توضح أن مواطن الزغاوة منذ بداية العصور الاسلامية كانت المنطقة الواقعة إلى الشرق من كانم. فابن خلدون نفسه ذكر أن "الزغاوة مجاورون للنوبة"[7] وأعتقد أنه لم يشعر بأي تضارب بين روايتيه لأن الرواية الأولى ترجع إلى عصور سالفة.
وذكر المسعودي أن "مملكة الزغاوة واسعة كبيرة، منها على النيل مما يحاذي النوبة، ويحاربون النوبة."[8] ونقل ياقوت الحموي عن المهلبي[9] (ت380هـ) نصاًّ طويلا عن الزغاوة يعتبر من أقدم وأوفى ما كتب عنهم ورأيت أن اثبت النص بكامله. يقول ياقوت:
وقال المهلبي: ولزغاوة مدينتان: يقال لإحداهما مانان وللاخرى ترازكي وهما في الإقليم الأول وعرضهما إحدى وعشرون درجة. قال ومملكة الزغاوة مملكة عظيمة من ممالك السودان في حد المشرق منها مملكة النوبة الذين بأعلى صعيد مصر بينهم مسيرة عشرة أيام. وهم أمم كثيرة وطول بلادهم خمس عشرة مرحلة في مثلها في عمارة متصلة. وبيوتهم جصوص كلها وكذلك قصر ملكهم وهم يعظمونه ويعبدونه من دون الله تعالى ويتوهمون أنه لا يأكل الطعام، ولطعامه قَوَمَة عليه سراً يدخلونه إلى بيوته لا يعلم من أين يجيؤنه به فإن اتقف لاحد من الرعية أن يلقى الابل التي عليها زاوُر قتل لوقته في موضعه. وهو يشرب الشراب بحضرة خاصة أصحابه، وشرابه يعمل من الذُرَة مقوى بالعسل. وزيه لبس سراويلات من صوف رقيق والتشلاح عليها بالثياب الرفيعة من الصوف الإسماط والخز السوسي والديباج الرفيع. ويده مطلقة في رعاياه ويسترق من شاء منهم. أمواله المواشي من الغنم والبقر والجمال والخيل وزروع بلدهم أكثرها الذُرَة واللوبياءُ ثم القمح. وأكثر رعاياه عراة مؤتزرون بالجلود ومعايشهم من الزروع واقتناءِ المواشي، وديانتهم عبادة ملوكهم يعتقدون أنهم الذين يحيون ويميتون ويمرضون ويصحو. وهي من مدائن البلماء وقصبة بلاد كاوار على سمت الشرق منحرفاً إلى الجنوب."[10]
ومدينة مانان وفقا لرواية ياقوت عن المهلبي من مدن الزغاوة بينما هي عند كل من الادريسي[11] وابن سعيد[12] من مدن الكانم، وتبدو روايتيهما أوثق من رواية المهلبى خاصة وأن ابن فاطمة الذي نقل عنه ابن سعيد معرفته بالمنطقة واسعة وكما سبق أن ذكرنا أنه ربما زار تلك المناطق.
ومن الممكن أيضاً تفسير ما قاله المهلبي من أن مدينة مانان من مدن الزغاوة باعتبار أن أن الزغاوة كانوا من بين مؤسسي مملكة كانم، وربما كانت الغلبة إلى جانبهم في المؤاحل المبكرة من تاريخ مملكة كانم فاعتبر المهلبي منان من مدنهم. أما مدينة ترازكي – بهذا الرسم - لم ترد في المصادر الجغراقية الأخرى.
فمملكة الزغاوة بناءاً على وصف المهلبي في القرن الرابع الهجري (10 م) من ممالك السودان الواسعة المأهولة بالسكان إذ قدر مساحتها " خمس عشرة مرحلة في مثلها في عمارة متصلة" ويمارس سكانها حرفتي الزراعة والرعي. وذكر ابن سعيد أن الزغاوة والتاجويين
"جنس واحد، ولكن الملك وحسن الصورة والأخلاق في التاجويين. وهم كفار عصاة على الكانمي يألفون الصحارى والجبال" وقد جعل ابن سعيد تاجوة وليست مدينة زغاوة عاصمة أو قاعدة للزغاوة ربما لأنه ذكر أن الملك كان بيد التاجويين، وأضاف أن مجالاتهم "[13] ممتدة في المسافة التي بين قوس النيل من الجنوب إلى الشمال" وامتداد قوس النيل يقصد به منطقة انحاءة النيل نحو الجنوب الغربي عند منقة أبو حمد ثم التوجه نحو الشمال.
ولم تكن حدود قوس النيل واضحة لدى الجغرافيين المبكرين. فامتداد مملكة الزغاوة كان أكبر من المسافة الممتدة على قوس النيل، وقد يوضح هذا الوصف تحديد موقع مملكة الزغاوة بأنها شرقي النوبة – كما ذكر المهلبي - أكثر توضيح امتداد مساحتها. وذكر ابن سعيد أن مدينة تاجوة هي قاعدة الزغاوة، وقد حدد موقعها بخط طول 55 وعرض 14 درجة.[14] وذكر بأن أهلها مسلمون في طاعة الكانمي، وأن جنوبيها مدينة زغاوة حيث الطول 54 والعرض ½11درجة.[15]
وأضاف ابن سعيد – محدداً مصدر المعلومة بابن فاطمة – أن مواطن تاجوة كانت على النيل "وإنما هربوا بقواعدهم من النيل بسبب البعوض، فإنه يكثر من مجاورة النيل فيشتد أذاه على الآدميين والخيل. ولهم عيون في الرمال ومياه مشربة من النيل أيام الزيادة."[16]
ويفهم من هذا أن مواطن التاجويين كانت قريبة من النيل ربما على واد يصب في النيل، وتقع مدينتهم تاجوة إلى الشمال الشرقي من مدينة زغاوة. ووفقاً لهذا التحديد فإنها تقع غربي دنقلا وعلى نفس خط عرضها.
أما الادريسي فقد تناول الزغاوة باعتبارهم فرعين هما: الزغاوة والتاجويين وضع الزغاوة في المناطق الغربية من الصحراء الكبرى إلي الغرب من فزان، رغم إنه قال إن ذلك كان "في القديم من الزمان السالف." وذكر من مدن الزغاوة شامة وسغوة ونبرنتة.
وأشار إلى أن أكثر أهلها قد انتقلوا غرباً إلي مدينة كوكو، ربما بسبب الجفاف أو لحروبها مع النوبة التي سنتعرض اليها فيما يلي. ومدينة سغوة يسكنها فرع من الزغاوة عرفت المدينة باسمهم وهم قبيلة سغوة. أما مدينة نبرنتة فهي خراب بسبب الجفاف. وفيما يلي نص ما ذكرة الادريسي:
"وفي بلاد زغاوة من المدن والقواعد سغوة ... ومن مدن زغاوة شامة وهي مدينة صغيرة شبيهة بالقرية الجامعة وأهلها في هذا الوقت قليلون، وقد انتقل أكثر أهلها إلى مدينة كوكو وبينهما ست عشرة مرحلة. وأهل شامة يشربون الألبان ومياههم زعاق وعيشهم من اللحوم الطرية والمقددة والأحناش يتصيدونها كثيراً ويطبخونها بعد سلخها وقطع رؤوسها وأذنابها وحينئذ يأكلونها. والجرب لا يفارق أعناق هؤلاء القوم بل هو فيهم موجود وهم به مشهورون وبه يعرف الزغاويون في جميع الأرض وقبائل السودان، ولولا أنهم يأكلون الأحناش لتقطعوا جذاما.ً وهم عراة يسترون عوراتهم فقط بالجلود المدبوغة من الإبل والبقر ولهم في هذه الجلود التي يستترون بها ضروب من القطع وأنواع من التشريف يحكمونها."
"ولهم في أعلى أرضهم جبل يسمى جبل لونيا وهو عالي الارتقاء صعب لكنه ترب وترابه أبيض رخو، وفي أعلاه كهف لا يقربه أحد إلا هلك ويقال إنه فيه ثعبان كبير يلتقم من اعترض مكانه على غيرعلم منه بذلك. وأهل تلك الناحية يتحامون ذلك الكهف. وفي أصل هذا الجبل مياه نابعة تجري غير بعيد ثم تنقطع. وعليه أمة تسمى سغوة من قبائل زغارة وهم قوم ظواعن رحالة والإبل عندهم كثيرة اللقاح حسنة النتاج. وهم ينسجون المسوح من أوبارها والبيوت التي يعمرونها ويأوون إليها، ويتصرفون في ألبانها وأسمانها ويتعيشون من لحومها. والبقول عندهم قليلة وهم يزوعونها وينتجونها، وأكثر ما يزرعه أهل زغاوة الذرة وربما جلبت الحنطة إليهم من بلاد وارقلان وغيرها. نزهة."
"وفي جهة الشمال وعلى ثماني مراحل من موضع قبيلة سغوة مدينة خراب تسمى نبرنته وكانت فيما سلف من المدن المشهورة لكن فيما يذكر أن الرمل تغلب على مساكنها حتى خربت وعلى مياهها حتى نشفت وقل ساكنها فليس بها في هذا الزمان إلا بقايا قوم تشبثوا بمقامهم في بقايا خرابها حناناً للموطن. وبهذه المدينة في جهة شمالها جبل يسمى غرغة حكى صاحب كتاب العجائب أن فيه نملاً على قدر العصافير وهي أرزاق لحيات طوال غلاظ تكون في هذا الجبل ويحكى أن هذه الحيات قليلة الضرر والسودان يقصدون إلى هذا الجبل فيصيدون به هذه الحيات ويأكلونها كما قدمنا ذكره قبل هذا."[17]
ووصف الادريسي التاجويين "بأنهم مجوس، وحدد موقع ديارهم بأنها متصلة بأرض النوبة. وذكر أن من بين مدنهم مدنة سمنة وهي مدنة صغيرة، ونقل رواية عن أحد التجار المسافرين إلى أرض كوار "أن صاحب بلاق توجه إلى سمنة وهو أمير من قبل ملك النوبة فحرقها وهدمها وبدد شملهم على الآفاق وهي الآن خراب ومن مدينة تاجوة إليها ست مراحل"[18]
وبِلاق بكسر الباء موقعين: أحدهما – كما ذكر المسعودي عند مدينة أسوان وهو آخر حد الصعيد.[19] والموضع الآخر وهو القصود هنا حدد الادريسي موقعه بين ذراعين من النيل ... وأرضها تسقى بالنيل وماء النهر الذي يأتي من بلاد الحبشة وهو واد كبير جداً يمد النيل وموقعه بمقربة من مدينة بلاق وفي الذراع المحيط بها وعليه مزارع أهل الحبشة كثير من مدنها"[20] ويبدوا الموقع بوضوح على ملتقى نهر عطبرة بنهر النيل. أما مدينة سمنة فلم يحدد الادريسي موقعها ولم أجدها في المصادر الجغرافية الأخرى الأمر الذي جعل تحديد موقعها صعباً.
وقد رجح مسعد أن يكون موقغها "في تلال سيميات على بعد عشرين ميلا شرقي مدينة الفاشر الحالية حيث تعيش جماعة تعرف بهذا الاسم، ثم انتقلت جماعات سيميات إلى حدود واداي وهناك عرفوا باسم سيميار، ويزعم هؤلاء الانتساب إلى الداجو القدماء."[21] وهذا الموقع يجعلها بعيدة جداًّ من النيل إذا افترضنا انها تقع على واد يصب فى النيل مثل وادي المقدم أو الملك وهي مناطق يمكن أن نتصور خروج حملة إليها من منطقة عطبرة، وقد يبدو بعيداً خروج حملة من منطقة عطبرة إلي الفاشر ولكن ذلك لا يمنع امكانية حدوثها.
فالزغاوة التاجويون كانوا يعيشون على طول المنطقة الصحراوية ما بين كانم والنيل. ويرى الباحثون أن الزغاوة كونوا طبقة حاكمة سيطرت على مناطق واسعة خلال القرنين الأول والثاني الهجريين (7-8 م) امتدت من دارفور شرقاً حتى كوار غرباً. واختلط الزغاوة بالهجرات المغربية التي تدفقت على المنطقة في القرن الثاني الهجري، ونتج عن هذا الخليط شعب الكانمبو الذي أسس دولة كانم في نهاية القرن الثاني الهجري.[22]
ويرى بالمر أن هذه الجماعات بمختلف عناصرها كانت تتحكم في الجزء الشرقي من الصحراء الكبرى الواقع بين منطقة كوار شرقاً ونهر النيل غرباً، وأن واحة العوينات كانت تعرف عند عناصر الكانوري والتدا كمنطقة سكنية متوسطة بين بلاد كابيلا أو جابيلا وهو الاسم الذي يمكن إطلاقه على كل عواصم البرنو.[23]
ولم يوضح الادريسي سبب الحرب بين النوبة والتاجويين، وربما كان السبب هو الصراع الطبيعي بين سكان مناطق مصادر المياه الغنية والمناطق الجافة. وربما كانت أعين التاجويين لا تزال تنظر إلى بعض مناطق النيل بمنظار الارث القديم عندما كان أسلافهم مستقرين على النيل واضطرهم البعوض – كما ذكر ابن فاطمة – لترك النيل إلى الصحراء.
وقبل قرنين من زمن الادريسي أشار المسعودي في القرن الرابع الهجري (10 م) لذلك الصراع بين البوبة والزغاوة حيث ذكر أن "مملكة الزغاوة واسعة كبيرة، منها على النيل مما يحاذي النوبة، ويحاربون النوبة."[24]
وقبل ذلك بأربعة قرون أشار سترابو في نهاية القرن الأول قبل الميلاد إلى نفس الصراع عندما تحدث عن الجزيرة المأهولة السكان جنوب مروي حيث يسكن الليبيون شواطئها الغربية بينما يسكن المرويين مناطق الضفة الشرقية ويتصارعون على ملكية الجزيرة وشواطئ النيل.[25] وقد ذكرنا فيما سبق أن الليبيين في المصادر الكلاسيكية تقصد بهم سكان المناطق الصحراوية غربي النيل.
وقد أطلقت تلك المصادر على أولئك السكان أيضاً اسم النوبا، فمن هم ياترى أولئك النوبا (بالألف في آخر الكلمة) الدين كانوا ينافسون المرويين على مناطق النيل منذ القرن الأخير قبل الميلاد قبل وصول هجرة النوبة (بالتاء في آخر الكلمة) الأخيرة بثلاث قرون ؟ هل هم أسلاف التاجويين؟ تبدو الاجابة بنعم معقولة.
ويصف الادريسي التاجوين بأنهم سودان "وأنهم بشر كثير وجمع غزير ولهم إبل كثيرة وفي بلادهم مراع كثيرة وهم رحالة لا يقيمون في مكان واحد من جاورهم يغزوهم ويغير عليهم ويتحيل على أخذهم وليس لهم مدن إلا مدينتان وهما تاجوة وسمية ... هذه الأرض تتصل بها أرض الواحات الخارجة وهي الآن تعرف بأرض سنترية."[26]
[1] من الفصل السادس من كتاب "السودان: الوعي بالذات وتأصيل الهوية - مقدمة لدراسة سكان السودان" .
[2] ابن سعيد، كتاب الجغرافيا ج 1 ص 28.
[3] القلقشندي، صبح الأعشى ج 1ص10 وج2 ص 315 وج3 ص268 موقع الوراق.
[4] المسعودي، مروج الذهب ج 1 ص 168.
[5] الإدريسي، نزهة المشتاق ج 1 ص 32.
[6] ابن خلدون، العبر ح 1 ص 57.
[7] نفس المصدر ج 6 ص 199.
[8] المسعودي، أخبار الزمان ج 1 ص 89
[9] الحسن بن أحمد المهلبي عاش بمصر حيث ألف كتابه "المسالك والممالك" وأهداه للخلبفة الفاطمي العز لدين الله، ولكن الكتاب الآن مفقود.
[10] ياقوت الحموي، معجم البلدان ج 2 ص 396.
[11] الإدريسي، نزهة المشتاق ج 1 ص 6.
[12] ابن سعيد، كتاب الجغرافيا ج 1 ص 10.
[13] نفس المصدر ج 1 ص 11.
[14] استخدم الجغرافيون المسلمون خطوط الطول والعرض وهي تختلف قليلا من تحديد الخطوط الحالية، فخط الاستواء لايختلف كثيرا من موقعه الحالي ولكن خط الطول في الجغرافيا الاسلامية يبدأ من الجزائر الواقعة بالقرب من ساحل المغرب المطل على المحيط الأطلسي ومنها يتجه شرقاً.
[15] نفس المكان.
[16] ورد في نص ابن سعيد أن دنقلا تقع على خط عرض أربعة، ولطن يفهم من سياق ما ورد عن مواقع المدن عند ابن سعيد وكما هو مثبت في المصادر الجغرافية الأخرى أن هنالك خطأ ربما في النقل أو الطباعة في تحديد موقع دنقلا فجاء على خط رض أربعة بدلاً من أربعة عشر.
[17] الإدريسي، نزهة المشتاق ج 1 ص 33 – 34.
[18] نفس المرجع ج 1 ص 6.
[19] المسعودي، مروج الذهب ج 1 ص 176.
[20] الإدريسي، نزهة المشاتق ج 1 ص 9.
[21] مصطفى مسعد، المكتبة السودانية ص 25 حاشية رقم 4.
[22] أحمد الياس حسين، الطرق التجارية عبر الصحراء الكبرى حتى مستهل القرن السادس عشر كما عرفها الجغرافيون العرب. رسالة ماجستير قدمت إلى كلية الآداب جامهة القاهرة الأم 1977 ص 42.
[23] R. Palmer, the Bornu Sahara and Sudan London: 1936, p 3.
[24] المسعودي، مروج الذهب ج 1 ص 89.
[25] Quoted by Oric Bates, the Eastern Libyans London: 1970, p49.
[26] الإدريسي، نزهة المشتاق ج 1 ص 36.